【♦ مجزوءة المعرفة : مسألة العلمية في العلوم الإنسانية ♦】
لتجربة والتجريب:- إن كانت موضعة الظاهرة الإنسانية هو موضوع العلوم الإنسانية فكيف يمكن ان نقارب ونموضع هذة الظاهرة الانسانية ؟ وبالتالي ما هي الصعوبات الابستيمولوجية التي تواجهنا في ذلك.
=> يؤسس الفيلسوف "ميشيل فوكو" تصوره لإشكالية العلمية في العلوم الإنسانية من خلال مشكلة موضع الظاهرة الإنسانية إذ تعترضنا صعوبة في موضعة الظاهرة الإنسانية بالقياس إلى الظاهرة الطبيعية. اذا كانت الظاهرة الطبيعية تتحد بخصائص البساطة والقابلية للعزل والتكرار والتجريب مما يجعل دراستها ميسرة من الناحية العلمية فان الظاهرة الإنسانية هي ظاهرة معقدة تتداخل في تكوينها جملة من الأبعاد المحددات كالبعد النفسي والاقتصادي والاجتماعي والديني والتاريخي والثقافي وفضلا على أنها ظاهرة حرة واعية ومتحركة وتمتلك كرامة الشيء الذي يجعلها أمام صعوبة مقاربتها وموضعتها بطريقة علمية.
=> ونجد الفيلسوف "كلود ليفي ستورس" يبين لنا موضعة الظاهرة الإنسانية باعتبارها ظاهرة صعبة جدا تتمثل في التواصل بين الذات والموضوع فالعالم هو الإنسان وموضوع الدراسة هي الانسان ومن ثم يحدث تداخل بين الذات والموضوع بين المُلاحِظِ و المُلاحَظِ الشيء الذي يغيب معه إمكانية تحقيق الموضوعية التي تشكل شرطا أساسيا في العلم.وهكذا يضل السؤال معلقا حول علمية العلوم الإنسانية التي تصطدم بصعوبة تحقيق شرط العلمية المتمثل في الحياد والنزاهة والموضوعية.
=> يبلور "دوفرين" تصوره حول اشكالية العلمية في العلوم الانسانية انطلاقا من مشكلة موضعة الظاهرة الانسانية اذ يعتبر ان الانسان ظل يشكل نقطة تقاطع العديد من الخطابات ولعل اهمها خطاب الفلسفة وخطاب العلوم الانسانية فكيف قاربت هذه الخطابات مفهوم الانسان؟ لقد ظلت الفلسفة منذ القدم تنظر للأنسان كذات عارفة واعية ومفكرة بإمتياز الشيء الذي جعلها تعلي من شأن الانسان وتمجده كقيمة عليا. لقد سعت العلوم الانسانية الى بناء مجدها واكتساب مشروعيتها العلمية على حساب الانسان الشيء الذي جعلها تغتال الانسان وتقتل خصوصياته النتمثلة في الوعي والحرية والكراهية.
العقلانية العلمية:- إذا كان المنهج الذي تسعى إليه العلوم الإنسانية هو بلوغ درجة من العلمية توازي علمية العلوم الطبيعية أو الحقه فان ذالك يشكل مطمحا صعبا و ذلك بالنظر إلى الاختلاف في طبيعة موضوع العلوم الطبيعية الذي هو الظاهرة الطبيعية وموضوع العلوم الإنسانية الذي هو ظاهرة إنسانية.
=> يندرج"كارل بوبر" ضمن موقفه الابستيمولوجي الذي يرى ان العلوم الإنسانية لا تخضع للتعميم والتجريب او التفسير وذلك بالنظر إلى خصوصيات الظواهر الإنسانية التي تشكل موضوع العلوم الإنسانية.ينتقد كارل بوبر مطمح العلوم الإنسانية في ان تضاهي العلوم الحقة وذلك بالنظر إلى اختلاف طبيعة النظريات في العلوم الإنسانية والنظريات في العلوم الحقة اذا كانت العلوم الحقة تبني علميتها من خلال قدرتها على التنبؤ والتفسير لان طبيعة الظاهرة الطبيعة هي طبيعة حتمية تنتظم فيها القوانين على عكس طبيعة الظاهرة الإنسانية التي هي طبيعة حرة تتباين فيها قوانين وعليه لا يمكن للعلوم الانسانية ان تضاهي العلوم الحقة.
=> يوضح لنا تصور السوسيولوجي والابستيمولوجي الفرنسي"جوليان فروند" ذلك السجال الذي دار بين الجامعيين والاكادميين حول علمية العلوم الإنسانية وهو سجال يستمد مضمونه من ذالك الاختلاف الحاصل بين موقفين ابستيمولوجيين متناضرين يؤسس كل موقف تصوره لعلمية العلوم الانسانية من خلفية ابستمولوجيا ونضرية مختلفة.
=> ينتهي "مالينوفسكي" الى الاعتقاد بأن علمية العلوم الانسانية لا يجب ان تتحقق بمحاكات العلوم الحقة او استعارة منهجها التجريبي فاذا كانت العلوم الطبيعية قد حققت نجاحاتها الطبيعية حينما توفقت في اختيار منهج يلاءم الظاهرة الطبيعية فمن الافيد للعلوم الانسانية ان تحقق استقلاليتها وذلك بالبحث عن نجاحاتها العلمية من خلال ايجاد منهج يراعي خصوصية الظاهرة الانسانية ولعل هذا ما حققته بالفعل الانتربولوجيا حينما خلقت نمودج علمي خاص الذي يتلاءم مع خصوصية الظاهرة الانسانية الثقافية .
معايير علمية النظريات العلمية:1- موضوع علم الاجتماع:- إذا كان كل علم يحدد بموضوعه فان علم الاجتماع يحدد هو كذلك بموضوعه. فما إذن موضوع علم الاجتماع وكيف يمكن أن يحقق استقلاليته عن باقي المواضيع الأخرى في العلوم الإنسانية كعلم النفس أو علم التاريخ أو علم الاقتصاد او الانتروبولوجيا؟
=> يثير هذا التصور عند "ريمون ارون" الانتباه إلى صعوبة تحديد موضوع علم الاجتماع فإذا كان موضوع علم الاجتماع هو الظاهرة الاجتماعية فإنها اذن ظاهرة معقدة تتداخل فيها الأبعاد النفسية بالأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية واللغوية ...الشيء الذي يجعل الظاهرة الاجتماعية ظاهرة تتقاطع في دراستها عدة علوم كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وعلم السياسة وعلم اللغة والانطروبولوحية. إن هذا التداخل في الظاهرة الاجتماعية والتقاطع في دراستها يثير جدلا يتحول في اخر المطاف إلى جدل فلسفي عقيم مما يبعد علم الاجتماع عن طموحه العلمي المتمثل في الدقة و الحياد والموضوعية.
=> ينطلق "اميل دور كايم" في تصوره حول موضوع علم الاجتماع من اعتباره موضوعا تتداخل فيه المعرفة بالتربية بالسياسة بالأسرة بالمؤسسة...إنها إذن جوانب تشكل موضوع علم الاجتماع الذي هو الظاهرة الاجتماعية
اذا كان موضوع علم الاجتماع هو الظاهرة الاجتماعية فهي ظاهرة تتسم بطبيعتها الخارجية المستقلة عن وعي الأفراد وإرادتهم ؛فهي إذن ظاهرة قهرية والزامية تمارس قهرا وإكراها على الأفراد. ان الحديث عن الطبيعة الخارجية المستقل لظاهرة اجتماعية يجعل منها ظاهرة قابلة لدراسة الموضوعية و ذالك عبر النظر إليها كشيء من الاشياء.
2- منهج علم الاجتماع:- إذا كان كل علم يتحدد بمهجه،إذ أن العلوم الطبيعية تتحدد بالمنهج التجريبي القائم على الاختبار والتجريب والقياس والتفسير.فما هو المنهج الذي يعتمده علم الاجتماع في دراسة موضوعه؟
=> يندرج تصور "لادريير" ضمن النقاش الابستيمولوجي حول إشكالية المنهج في العلوم الإنسانية .ويميز بين خصوصية موضوع العلوم التجريبية وخصوصية موضوع علم الاجتماع، فإذا كانت العلوم التجريبية تدرس الأشياء وفق منهج تجريبي يتلاءم مع الظاهرة الفيزيائية فان موضوع علم الاجتماع هو الظاهرة الاجتماعية ومن ثم تطرح إمكانية مقاربة الظاهرة الاجتماعية بطريقة تجريبية .
=> وينخرط "مارسل موس" في هذا النقاش الابستيمولوجي حول إشكالية منهج علم الاجتماع .فإذا كان" ايميل دور كايو" ومن خلال المدرسة الوضعية قد اعتبر الظاهرة الاجتماعية كشيء من الأشياء ومن ثم يجب دراستها وفق المنهج التجريبي تماما كما وتضفه للفيزياء،فان "مارسل"يرى بان موضوع علم الاجتماع هو مختلف عن موضوع الفيزياء بحيث يلخص خطواته في ما يلي : 1التعريف 2ملاحظة الظواهر 3تنظيم الوقائع 4مراعات الخاصية العلمية للفرضية السوسيولوجية.
هكذا يمكن بناء منهج قادر على دراسة ومقارنة الظواهر الاجتماعي مقارنة علمية.
3- نظريات علم الاجتماع:- إذا كان علم الاجتماع هو ذلك العلم الذي يهتم بالظاهرة الاجتماعية نتساءل كيف يتم بناء النظريات في علم الاجتماع،بعبارة أخرى ما هي أبعادها وكيف تتفاعل تلك الأبعاد في بناء نظرية اجتماعية دقيقة ؟
=> يؤسس "بيار انصار" تصوره حول إشكالية نظريات علم الاجتماع من خلال افتراض ثلاثة أبعاد تحدد بناء النظرية في علم الاجتماع وهي أبعاد تتمثل في البعد الابستيمولوجي : وهو اقامة مسافة ابستيمولوجية بينه وبين موضوع دراسته اما البعد النظري:ويقوم على تفسير الظواهر الاجتماعية التي قاربة النظرية الماركسية او البنيوية وبين نظريات خاصة تركز على جوانب محددة من الظاهرة الاجتماعية واخيرا هناك البعد المنهجي الذي يشتمل في ذاته على الطرائق والوسائل والتقنيات المستعملة في البح الاجتماعي العلمي.
=> وينضم "أيان كرايب" إلى هذا النقاش المتعلق بإشكالية النظرية في علم الاجتماع ويرصد الأبعاد المختلفة وهي أبعاد تتمثل فيما هو عاطفي وتأملي ومعياري ولعل هذا التعدد النظري يتم عن خصوبة النظرية في علم الاجتماع وهي خصوبة ترتبط بطبيعة الظاهرة الاجتماعية التي تتسم بالاختلاف والتعدد والتنوع.إن اعتماد المقاربة التعددية في النظرية الاجتماعية كفيل بأن يؤدي بالباحث إلى استكشاف المناحي المتعددة للحياة الاجتماعية.