سلام الله على الأحبة الكرام...
جدلية البناء النفسي...
الواقع كل شيء في حركة مستمرة...فليس هناك سكون بكل ما تحمله الكلمة من معنى بل هناك سكينة تجدد حيويتها...تجدد الحياة/الحركة طاقتها لتستأنف دورتها من جديد...و ما الليل و النهار كآيتين للسكينة كحركة بطيئة و كحركة سريعة ،إلا دليل واضح و برهان ساطع على ارتباط جدلية الطبيعة بجدلية الإنسان كعلاقة تتفاعل فيها العناصر المكونة للحياة و للوجود كبناء رباني من حيث الخلق و بناء تاريخي مستمد حركته من تفاعل العناصر نفسها... و بالتالي فالحركة هي مستمرة ما دامت السماوات و الأرض و ما دام تعاقب الليل و النهار...
و من هذه الزاوية يمكن النظر إلى قضية الجدلية كقضية جوهرية تحدث على مستوى البناء الكامل كما تحدث على مستوى التشييد و العمارة...فالبناء الكامل هو الشخصية التي بلغت حد النضج و وعت بدورها و الغاية من وجودها و التي في طور التشييد و العمارة و البناء هي الأخرى ضمن دائرة "الجدلية النفسية"...فالبناء النظري قد تم بالفعل لكن البناء الواقعي لا زال يتأرجح بين التشييد و الترميم و الإصلاح و التغيير ...و يظل العقل الأداة المكلفة أساسا في الإنسان ليست عاجزة كل العجز عن تنزيل البناء النظري إلى الواقع الفعلي...لكنها لم تصل بعد إلى الطريقة المثلى لتحقيق ذلك...مع العلم أنه تاريخيا قد تم ذلك في بقعة مباركة من العالم سرعان ما انتشرت حتى بلغت مساحات جغرافية كبرى...لكن يظل السؤال في الوقت الحالي كيف يمكن تحقيق ذلك دون الصدامات التي تهدم البناء بدل أن تشد من صلابته المنطقية و العقلية...فالجدلية ليست حتما بالجدلية القائمة على النفي و الفتك و الإفناء بقدر ما هي قائمة على الأنفع و الأصلح الذي يمكث في الأرض لكي ينفع الناس...؟
قد اختلف مع البعض في طرح القضية و قد أتفق مع البعض ،كما قد نتفق في أشياء و نختلف في أخرى...و الاختلاف تنوع قد يغني التحليل و يبين جوانب هي غامضة في الأصل غموض المعنى الحق لما يسمى "النفس"...أما الروح فعلمها عند الله و كل ما قيل فيها من قبيل الظن و لا يغني الظن من الحق شيئا...
و كل جدلية في مفهومها المتداول البسيط هي قائمة بين عنصرين يتولد عنهما عنصر ثالث و هذا إلى ما لا نهاية...و يتم ذلك حتى في حالة من الثبات أو من السكون بالمعنى الذي أشرت إليه سابقا...و أطراف الجدلية أو عناصرها هي في الواقع النفسي ثلاثة...الأمارة بالسوء و اللوامة و المطمئنة...و العامل المشترك بينهم أنها هي النفس الواحدة...تلك التي أخذت سلوكا معينا في الحالات التي وجدت ذاتها ضمنها و بالقدرة و القوة التي تيسرت لها...فهناك النفس الأمارة بالسوء و هناك النفس اللوامة و هناك النفس المطمئنة...فالنفس واحدة لكن تمظهراتها تصب في هذا الاتجاه أو ذاك كما أنها تنتقل من هذا الجانب إلى آخر بسرعة لا مثيل لها ،ترتكز أساسا على معطيات أخرى فطرية و مكتسبة...
فالفطرية هي الدوافع و الغرائز المرتبطة بالحاجات و الشهوات و الرغبات الطبيعية التي تجعل من تلبيتها استمرارية حياة الكائن. و المكتسبة هي التي تمد الكائن بالوسائل و الطرق و المفاهيم و المبادئ و المواقف التي تجعل من سبل تحقيق تلك الأشياء الفطرية مقبولة اجتماعيا...أي أنها تضفي صفة "الشرعية و المشروعية" على الأفعال و الممارسات التي يحقق بها الكائن "الاستمرارية" في الحياة...
من هنا أعتقد أن البناء النفسي "القائم" أي النموذج المنجز هو الذي يطرح إشكالية التساؤل عن مدى تحقيقه للبناء القويم و السليم و المنطقي و المعقول كما تريده العقول ا و يرضى عنه قبل ذلك رب العقول و خالق كل شيء...
فالعقل كأداة للتحليل هو نفسه الأداة الخاضعة للتحليل و التفكيك و التركيب و الاستنتاج و المقارنة لبلوغ تصور معين...و من تم أساسا لا يمكن أن ننطلق من تعريف خاطئ ،تم تمريره على مر العصور،لكي يظل الإنسان يبر "الحيوانية" أو البهيمية" التي يتصرف بها في بعض الأحيان،اتجاه نفسه أو غيره...فالإنسان ليس بحيوان ناطق كما يقول بعض الفلاسفة أو نبات مفكر كما يقول "باسكال "بل هو كائن ناطق أو عاقل أو أي خاصية من الخصائص التي تجعله في زمرة الكائنات الموجودة...لكن ما يميزه عن الحيوان كونه "كائن أخلاقي"...فالمنظومة الأخلاقية هي التي ترفع الكائن البشري من الحيوانية أو النباتية إلى مرتبة أرقى و أسمى...لذلك فضله الخالق عن باقي المخلوقات...
فمن حيث الخلق فالإنسان و الحيوان و غير ذلك هي "أمم أمثالكم" لكن من حيث التكوين فلكل طبيعته و بالتالي لكل طباعه و لكل أخلاقه...و أخلاق الإنسان هي التي تميزه عن باقي الكائنات الأخرى في الممارسات سواء الفردية أو الاجتماعية...كما أن اختلاف المنظومات الأخلاقية بين المجتمعات نابعة هي الأخرى من الجدلية القائمة بين النفس صاحبة الأبعاد الثلاثة...
و من تم فالبناء النفسي سواء ارتكز على مرجعية واحدة أو اختلفت مرجعياته يظل دائما بين ما هو قديم متعارف عليه و مألوف لديه و بين ما هو جديد و حديث و مبتكر...لذلك تجد في سورة العلق...في الخمس الآيات الأولى:الحديث عن القراءة ( كجدلية بين الذات و الواقع)على اعتبار أن القراءة هي الجمع بين الذات و الواقع في عالم الكلمات و المعاني في عالم الحروف و المفاهيم... و عن الكتابة (كجدلية بين الواقع و الذات) كعملية تأريخ و تدوين و تسجيل لما استطاع الإنسان أن يعرفه و يعلمه عن ذاته و عن واقعه... بعدما كانت الذات و ظواهرها مجهولة غير معلومة...و كان الواقع و ظواهره مجهول غير معلوم...و كأول سؤال هو سؤال عن الخلق...من خلق هذا الإنسان؟ و مما خلق هذا الإنسان؟ و كجواب على سؤال الخلق و على سؤال مما خلق...سيكثر الحديث و ستكثر الإجابات من كل حدب و صوب...على اعتبار أن الإنسان يغطي حاجياته المعرفية و العلمية بإجاباته الخاصة المنبثقة من معارفه...و من تم سيظهر هذا الإنسان على كونه كريم معطاء سخي...
لكن الحق هو ما قاله الحق جل و علا :"و ربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم" فمها بدل الإنسان من عطاء و قدم من إنجازات و من كرم في إسعاد البشرية و في تحقيق سعادة الإنسانية فهناك من هو أكرم منه...ذاك الذي أمده بالأدوات الأساسية لتحقيق ذلك...فهو الذي علمه بما يسر له من قدرة فطرية على اكتساب المعرفة و العلم لينتقل من حالة الجهالة إلى حالة المعرفة...و علمه من بعد جهله أشياء لم يكن يعلمها...و أمده بالقدرة على تعقل تلك الأشياء و كتابتها و تدوينها لكي تعلمها الأجيال اللاحقة و تعقلها...و من هنا كانت جدلية القراءة و الكتابة هي من أسس تطوير البناء النفسي و تقويمه و تعديله و إصلاحه...
لكن لماذا ارتبطت السماء بالأرض عبر التاريخ...؟
أليس لتحقيق البناء النفسي و الاجتماعي الأمثل الذي يرضى عنه من جعل علاقة السماء بالأرض علاقة جدلية تتفاعل فيها عناصر الحياة...؟